التجاني محمد الماحي (رائد الطب النفسي في السودان)


عن بداياته، خط التجاني الماحي بيده في كتاب صغير اسمه
R.S. Woodworth. Handbook of Psychology: a study of mental life, 1925
(هذا الكتاب أهداه لي الصديق العزيز اسماعيل أفندي الأزهري في يوم 6\6\1936 وهو كتابه الذي قرأه في علم النفس بالجامعة الإمريكية (في بيروت)، وهو أول كتاب في علم النفس أقرأه) ويواصل في مكان آخر من نفس الكتاب (أهداه لي في أول سنة تخرجت فيها، وكان له أثره في إثارة اهتمامي بالطب النفسي الذي تخصصت فيه فيما بعد وأصبح مجالي الذي كرست له حياتي كطبيب). وعند عودته إختصاصياً في الطب النفسي حمل نفس الكتاب لأزهرى ليمهره له بتوقيعه مرة أخرى مشيراً إشارة دقيقة المعنى لفضل رجل عليه وعرفاناً بفضله.
في نهاية ستينات القرن المنصرم، تتلمذت في الطب النفسي في كلية الطب، جامعة الخرطوم على يدي الدكتور التجاني الماحي، وتوثقت في تلك الفترة أيضاً صلتي به وتعرفت على أكثر كتاباته التي نشرها في مجلات بعيدة عن متناول أغلب القراء، وأطلعت على التقارير العديدة التي كتبها حين كان مستشاراً للصحة النفسية لإقليم شرق حوض البحر الأبيض المتوسط، وعلى نصوص المحاضرات التي ألقاها في المحافل المختلفة، زيادة على مسودات مقالاته التي ساهمت في تبييضها معه.
بعد وفاته، هالني الفراغ الذي تركه وأزعجتني قلة المادة التي نشرها بالمقارنة بما كتبه وتحدث فيه، فوطدت العزم وانكببت على جمع وتحقيق أعماله في الفترة من 1970 إلى 1980. أتاح لي الأستاذ عبد الرحمن النصري أمين مكتبة جامعة الخرطوم آنئذ ملفات التجاني بالمكتبة، وعمل بحكم عضويته في مجلس إدارة دار جامعة الخرطوم للنشر وبمعاونة الراحل الأستاذ على المك مدير الدار آنذاك على طباعة ما تيسر لي جمعه وتحقيقه من أعمال في كتابين على نفقة مطبعة جامعة الخرطوم، صدر الكتاب الأول منها على شرف اليوبيل الفضي لجامعة الخرطوم (1956-1981) في 1982 والثاني في 1984.
اهتم دكتور التجاني الماحي بالبحث في الصحة والمرض عند إنسان مجتمعات ما قبل التصنيع، وقام بدراسة آثار تلك الحقب الغابرة، ودراسة تراثها، وأساطيرها، وخرافاتها. ودرس طب الحضارات العظمى الأولى التي ظهرت في سهول ما بين النهرين وفي حوض النيل (حضارات بابل ومصر) وروافدها من حضارات الفرس والإغريق والرومان، وفي دراستها كان يرى أنها فروع تصب في نهر الطب الشعبي بل هي جذوره التاريخية وجميعها تكون الأنثروبولوجيا الطبية بمفهومها الحديث وأن دراستها جزء لا يتجزأ من دراسة تاريخ الأمة الطبي وتراثها. حث التجاني على دراسة ذلك التراث ونبه إلى أن تلك الدراسة يجب أن لا تقتصر على تقصي جذوره وتياراته التاريخية من منطلق طبي صرف فحسب، بل لا بد من أن تدرس أيضاً كجزء من تاريخ التكنولوجيا العام.
نبه التجاني لأهمية دراسة تاريخ الطب وتحدث وكتب بإسهاب عن أن للتاريخ مناهجه وأساليبه ولا بد للطبيب إن عزم على كتابة تاريخ الطب أن يتسلح بالأداة والوعي والحس التاريخي ولا بد للمؤرخ أن يدرك أن هذه الدراسات هي دراسات في تاريخ العلوم حين أصبح مبدأ ترابط العلوم ووحدة المعرفة من الأسس الأصيلة في دراستها ومباحثها. في هذا المجال قدم التجاني الماحي أهم إضافاته التي أكد فيها أن للعلوم الإنسانية دور هام في دراسة الصحة والمرض، ودعا للجمع بين (البايولوجي والثقافي الاجتماعي).
سبق التجاني الماحي المؤسسة الطبية الرسمية الحديثة في التبشير بأهمية ما أصبح يعرف مؤخراً بالكفاءة الثقافية (cultural competence) التي يجب أن يتسلح بها كل المشتغلين في مجال الصحة خصوصاً الأطباء عند تعاملهم مع مرضى من بيئات ثقافية وعرقية مختلفة. فقد كان يرى أن الممارسات الطبية جزء لا يتجزأ من ثقافة الأمة وإرثها المادي والروحي، والممارس الطبي مهما كانت رتبته أو مكانته الاجتماعية مقود في ممارساته بالنظريات والمفاهيم السائدة في مجتمعه عن الصحة والمرض والإصابة. لمعرفة هذه النظريات والمفاهيم التي تقود خطى الطبيب في العلاج وخطى المريض في البحث عنه لا بد من دراسة الدين والفلسفة والسحر وعلوم الغيب والكونيات والعديد من العلوم الإنسانية. نظرة سريعة لمناهج كليات الطب والصحة عندنا وعند غيرنا من الدول الشبيهة، ترينا أنها ما زالت بعيدة عن تبني مثل هذا الفهم المتقدم. ليس ذلك فحسب، بل أننا ما زلنا نجاهد في أن تتبنى كليات العلوم الإنسانية عندنا مناهج في الانثربولوجيا الطبية دون جدوى.
سبقت تعاليم التجاني الماحي المؤسسة الصحية الرسمية حين بشر بدور المؤسسة الطبية الشعبية في الرعاية الصحية الأولية. فقد كانت أفكاره عن القرية العلاجية نموذجاً جربه بنجاح في أم ضواً بان في السودان وواصل التجربة صديقه وزميله دكتور طه بعشر وجربه بنجاح أيضاً صديقه وزميل دراسته النايجيري دكتور أديو لامبو في قرية أرو بأبيوكوتا في نايجيريا.
من واقع نظري المتصل (ولا أقول المتعمق أو المتخصص) في أعمال الدكتور التجاني الماحي، أكاد أقول أنه قد بلور أو كان غاب قوسين أو أدنى من بلورة منهج متكامل في الطب النفسي يفسر به الظواهر المختلفة التي نظر فيها. فقد درس التجاني كل ظاهرة طرقها دراسة عميقة ووصفها وصفاً دقيقاً، وجمع من أدبياتها ما لم يتيسر لغيره، وإذا لم يصغ التجاني ذلك المنهج صياغة واضحة فقد ترك حيثيات كافية لبلورته ووفر المادة اللازمة لتلك المهمة في كتاباته.
ليس كافياً ونحن نحي الذكرى الأربعين لرحيل الدكتور التجاني الماحي أن نتذكره، وليس كافياً أن نقتدي به ونقتفي أثره وليس المطلوب فقط أن نخلد ذكراه بإحياء الدروب الكثيرة التي ارتادها، المطلوب حقاً (وهو ما لا نراه حتى الآن) أن يكمل علماء الطب النفسي السودانيون ما لم يكمل في حياته بدراسة أعماله دراسة جادة وبلورة منهجه بطريقة أوضح. فحياة التجاني كانت حياة زاخرة بالعلم وفيها مجال لكل باحث.
كان رحمه الله يكرر دون ملل إن (المراجع نصف البحث) (Bibliography is half scholarship)، وقد عرف التجاني الماحي بحبه للكتاب، فما كان يرى أبداً إلا وفي يده واحد، ولا يفهم، في تقديرنا، هذا الحب لاغتناء الكتب والمخطوطات والمراجع النادرة إلا من زاوية واحدة وهي سعيه للإحاطة بموضوعه وطلبه المعرفة في مظانها، فإن لم يكن هذا هو الحا، الغرض فكيف نفهم أو نفسر أن يمتلك شخص (17) نسخة بلغات وفي إصدارات مختلفة لكتاب سلاطين باشا (السيف والنار) مثلاً.
امتلك التجاني الماحي مكتبة شخصية حوت نفائس الكتب والمصنفات والخرط والمخطوطات العربية والإسلامية والسودانية التي لم تحقق بعد، زيادة على عدد من العاديات والطوابع والخطابات واللوحات النادرة وغيرها من المواد المتفرقة، أهدتها أسرته كلها إلى جامعة الخرطوم وآلت إليها في 1972. أفردت الجامعة قسماً في مكتبتها الأم لهذه الثروة واسمتها (مكتبة التجاني الماحي) بجوار (مكتبة الشنقيطي) في الطابق الأرضي من مبنى المكتبة وافتتحتها في 8 يناير 1973.
عدد الكتب التي استلمتها الجامعة من عائلة البروفيسور التجاني الماحي كانت (14502) كتاب في تاريخ العلم والفلسفة والدين والرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلم الفلك والزراعة والجغرافيا وعلم النبات والحيوان والتربية والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفنون التطبيقية والموسيقى والآداب وأدب الرحلات والموسوعات والقواميس. من بين تلك الكتب (1500) كتاب عن السودان و(1000) في الطب منها (270) كتاباً باللغة العربية. في أول جرد للمكتبة في مارس 2001 أي بعد 28 سنة من حيازة الجامعة للمكتبة كان العدد الموجود بالأرفف (13328) أي بفقد (1174) كتاباً.
استلمت الجامعة أيضاً (2634) مخطوطة أصلية و(640) خريطة نادرة يقال أن بعضها يرجع إلى عهد الإدريسي. كانت كلها موجودة عند ذلك الجرد.
في أغسطس 2006، قامت جامعة الخرطوم بعملية جرد أخرى أسفرت عن كشف نقص قارب (10%). فالمفقود من الكتب كان (2556) ومن المخطوطات مخطوطة واحدة فقط، وعزت الجامعة ذلك النقص لبعض عمليات الاستبعاد عند التلف.
في مارس 2007، بادرت مجموعة من أصدقاء الراحل وعائلته واجتمعت بمدير جامعة الخرطوم السابق بروفيسور محمد أحمد على الشيخ للتفاكر حول حال المكتبة، والتشاور في كيفية نسخ الوثائق والمخطوطات وإعادة طباعة مؤلفات الفقيد واستكمال ما لم يكمل من دراسات وأعمال والتحقيق في ما أشيع عن ضياع بعض محتويات المكتبة، والمساعدة في اتخاذ ما يلزم من الإجراءات للحفاظ على تلك الثروة من الضياع والتلف وإتاحتها بأسرع ما يمكن لللقراء والباحثين.
كون سيادته لجنة من كل المسئولين والقائمين على أمر المكتبة لتجتمع مع هذه المجموعة وتتشاور في الأمر، واجتمعت اللجنة عدة مرات وتقدمت بعدة توصيات لكن لم تسفر تلك الاجتماعات عن شيئ ذي بال، وكأغلب اللجان تلاشت. لكن حين جردت المكتبة للمرة الثالثة في 2007، كان المفقود من الكتب قد وصل إلى (2742) ومن الخرائط (158) خريطة، أي وصلت نسبة الفقد (19%).
لاحظت كل لجان الجرد وأثبتت في تقاريرها تردي أحوال المكتبة وأن (الأرضة) قد أتلفت بعض المجموعات، وأشارت إلى غياب الصيانة والترميم والتجليد والتطهير لتلك المقتنيات مما أدى إلى تلف بعض الكتب وأن المخطوطات ليست في المكان المناسب من حيث الحفظ والإضاءة والتهوية. كما أوضحت تلك اللجان أن المساحة المخصصة لتلك المكتبة صغيرة، وأن بيئتها يصعب التحكم فيها بما يناسب طبيعة المواد المحفوظة فيها.
وأمن الجميع على أن الكتب نفسها تحتاج لإعادة تصنيف وفهرسة وحوسبة حتى يمكن أن تتاح للقراء والباحثين.مل
أشرنا في عدة مناسبات إلى أن إضافة تلك الثروة لمكتبة جامعة الخرطوم جعلتها من أغنى المكتبات بالمخطوطات النادرة. وضربنا مقارنة قلنا فيها أن الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون (باع) قبل موته مكتبته (6500 كتاب) للكونقرس لتصبح نواة لأكبر مكتبة في العالم اليوم في واشنطن في الولايات المتحدة. أما عائلة التجاني الماحي فقد (أهدت) مكتبته لجامعة الخرطوم بما فيها، وأنقضت حتى الآن ثمان وثلاثون سنة منذ أن آلت هذه المكتبة للجامعة ومازالت مغتنياتها تنتظر من يصفها ويصنفها ويفهرسها ويصورها ويخزنها ويحفظها من التلف، وما زالت بعيدة عن متناول القراء والباحثين.
إن أقل ما يمكن أن تقوم به جامعة الخرطوم نحو دكتور التجاني الماحي وهو أحد أعلامها ورواد علومها وبنات صرحها أن تحسن صيانة ما أهداها وأهدى للعلم والعلماء. فهل تستجيب الجامعة؟
ملحوظة: 

Comments

Popular posts from this blog

نباتات السودان السامة

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)