نبني بالحوار معرفتنا وقاعدة بياناتنا التي نصدر على هديها قراراتنا وونبني مشاريعنا. فالحوار هو القاعدة الأولى لغرس الشرعية في النشاط الإنساني حيث يبدأ مع الذات لإدراكها والوعي بها والوصول إلى سلام معها، ومن ثم مع الأسرة والمجتمع. يجري الحوار في المجتمع على نطاق عريض ويأخذ أشكالاً لا تحصى منها العفوي اليومي الذي يدور بين الأفراد في مجالس أنسهم، ومنها التداول المنتظم الذي يتم من خلال اجتماعات تنظيمات المجتمع المختلفة والتي تستوعب وتؤطر نشاط المواطنين وتبلور آمالهم وطموحاتهم المشتركة، وتبرز إرادتهم الجماعية ورؤاهم لحاضرهم ومستقبلهم. هذا هو (حوار المجتمع) (حوار جماهير الثورة) خاصة وباقي المواطنين عامة. وهو نشاط مستمر بين الناس لا ينقطع أثناء الحياة مهما استقرت أو اضطربت، أثناء التظاهرات والإعتصامات، في السلم والحرب، وفي الأفراح والأتراح.
بتحليل الشعارات التي رفعتها ثورة ديسمبر المجيدة (تسقط بس، حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب، حرية سلام وعدالة والمدنية خيار الشعب، سلمية سلمية، يا العنصري المغرور كل البلد دارفور، دم الشهيد بى كم؟ دم الشهيد ما راح لابسنو نحن وشاح، أم الشهيد أمي، دم الشهيد دمي، فوق فوق سودانا فوق، لا تعليم في وضع أليم) وغيرها، وبإمعان النظر في المعاني التي حملتها القرافيتي والجداريات والأرضيات التي أبدعتها ريشة الثوار والرسائل التي بثتها، وبالنظر في سطوة وحضور أشعار ورؤى محجوب شريف وحميد وهاشم صديق وعالم عباس وأزهري محمد على ومحمد طه القدال ومروة بابكر وغيرهم التي ألهمت الجماهير وألهبت هتافاتهم، وبترديد أناشيد الخليل ومحمد الأمين ووردي والعطبراوي، وأكتوبريات محمد المكي إبراهيم التي انتفضت كأنها أعدت لهذه الثورة، وبالنظر لأهازيج أحمد أمين وشعارات دسيس مان وراب أيمن ماو، وبمراجعة قاموس الثوار وما حواه من تعابير مبتكرة ومن معاني وقيم، وبالتقدير الكافي لعشرات الأيقونات التي أفرزتها الثورة، وبالطبع بالاحترام الواجب للشباب الواعي الذي قاد تلك الثورة ومهرها بدمائه، وبالوفاء والعرفان لشهدائها وجرحاها، وبالآمال العراض بأن يعود كل مفقود إلي بيته وأهله، بهذا الزخم وهذه الشعارات وهذه الأهازيج وهذا الشعر الجميل والأناشيد الوطنية، وتلك الفنون العفوية التي عبرت بها الجماهير عن مطالبها ببلاغة مشهودة، وضعت بها الجماهير سقفاً عالياً لمطالبها وأسست بها برنامج الثورة، وضبطت إيقاع حركتها ليكون سريعاً وعالي النبرة.
كانت الثورة السودانية التي أطاحت بنظام "الإنقاذ" في 11 إبريل 2019 عبقرية، كما كانت فريدة في نوعها وفي وسائل النضال التي ابتدعتها، وبالدروب الجديدة التي سلكتها وبالأساليب التي وحدت بها الشعب بكل فئاته في ثورة شعبية سلمية عريضة أذهلت العالم.
أرسى الشعب في هذه الثورة مفاهيم جديدة في آليات النضال التي قادها الشباب وساهم فيها طلاب الجامعات والمعاهد العليا، وتلاميذ المدارس واشتركت فيها كل الأجيال مهنيين ونقابيين وسياسيين داخل السودان وخارجه.
إن عظمة هذه الثورة الظافرة لن تترجم ولن تتحقق إلا بتحطيم الأرقام القياسية التي وضعتها (جمهورية أعلى النفق) بالإصرار والمثابرة والدقة والانضباط والطهرية والتفاني والشجاعة والبسالة ونكران الذات. ولن نوفيها حقها إلا بتحقيق الغايات والأهداف الوطنية التي طالبت بها، ولن تتحقق تلك الغايات والأهداف إلا إذا ترجمت الشعارات البليغة إلى تشريعات وقوانين ومشاريع ومكاسب.
من مجمل شعارات الجماهير وأناشيدها وأهازيجها يمكننا القول دون تردد أن ثورة ديسمبر أرست في عمرها القصير نظاماً اجتماعياً سياسياً ثقافياً جديداً يقوم بديلاً لكل ما أرسته نظم الاستبداد بكل أنواعه العسكري والطبقي والصفوي والطائفي والأيديولوجي، دينياً كان أم عقائدياً. فقد قاد الشباب بالفعل والقول ثورة استهدفت ليس فقط الإطاحة برأس النظام بل بإسقاط نظام "الإنقاذ" كله بكل ما يمثله من جبروت وظلم وتسلط وفساد أزكم الأنوف. ثورة استهدفت تغييراً شاملاً وجذرياً لكل النظم الدستورية والقانونية والتنفيذية والمفاهيم والعلاقات الاجتماعية البالية التي سادت قي السودان القديم. والشواهد على صحة قولنا لا حصر لها.
أن السعي لاكتساب مكان مرموق في الواقع المحلي والإقليمي والعالمي يتطلب تغيير الواقع وإعادة توجيهه نحو عالم جديد. وسودان الثورة عالم جديد تماماً. سودان يدعو للانتقال من حالة الحرب للسلم، ومن الشمولية للديموقراطية، ومن التعصب إلى التسامح. عالم يهزم الهزيمة والإنكسار، ويقوم على الجسارة العلمية والرؤى التي تستشرف الأفق البعيد. وينقل الفكر والممارسة من نهج الأساليب البالية إلى نهج الثورة؛ من دولة الفرد والنخبة إلى دولة المؤسسات والتخصصات وتوزيع المهام؛ من دولة الفوضى والعشوائية والميكافيلية إلى دولة القانون والقواعد الراسخة والإجراءات المتينة.
على السلطة الانتقالية، إذن، أن تستجيب لحوار الجماهير فتجدد الأطر السياسية وترمم أجهزة الدولة وتحدث المناهج والأساليب والمفاهيم، وتعيد صياغة الفرد دون تنكر للجذور أو التراث الأصيل. الثورة بهذا المعنى مفهوم عرفته المؤسسات المالية الحديثة، فقد غيرت بعضها خطوط إنتاجها بأخرى مختلفة تماماً وانصهرت أخرى في غيرها وفقدت اسمها فابتكرت نفسها مرة أخرى حتى تستطيع مواجهة المنافسة الشرسة في السوق الحديثة.
نجحت الجماهير عبر حواراتها البليغة في بلورة رؤاها وحددت أهدافها دون لبس لتقود النظام السياسي ليكون قادراً على هزيمة المد الأصولي والتطرف في كل صوره، وتساعده في إرساء دعائم الدولة المؤسسة على وحدة التراب ووحدة المجتمع متعدد الثقافات والأديان. وحددت مطالبها في مطلبين لا ثالث لهما: اجتثاث دابر نظام "االإنقاذ" وإقامة الدولة الراشدة. ويبقى كل ما يتبع ذلك أو ما يحتاج إليه ذلك حواشي ومتون. وتبقى الديموقراطية المستقرة في الفكر والعمل هي الآلية المضادة لكل نزعة سلطوية تسلطية. ويبقى الالتزام بكفالة الحقوق والحريات الأساسية كمكملات للشرط الديموقراطي مطلب أساسي. وتظل مهام تحديث وتمتين آليات الممارسة الديموقراطية العملية وترشيدها وتجويد آليات المراقبة والمحاسبة هم كبير. وتبقى مهمة ترسيخ كيانات منظومة حقوق الإنسان وتنظيمات المجتمع المدني من المهام العاجل لتقوم بدور السلطة الساهرة على الحد من طغيان سلطة الدولة.
سودان الثورة الذي دعت له جماهير الشباب ورفعت فيه شعار (حرية سلام وعدالة ومدنية خيار الشعب) عالياً هو سودان يؤمن بالديموقراطية التعددية القائمة على سيادة الشعب، وعلى التداول السلمي للسلطة وكفالة حقوق الإنسان. والديموقراطية لتي تسعى لها الدولة المدنية لها مقوماتها الذاتية ومفاهيمها وثقافتها التي ترسخها الممارسة. في كلمات أخرى، ما كل نظام يأتي بعد "الإنقاذ" نظام ديموقراطي ما لم نعمل لإقامة هذا النظام ونرسي دعائمه ونؤكد العقيدة الديموقراطية ونرسخ مفاهيمها.
الحرية هي ثورة التحرر من كل أنواع الديكتاتوريات ومن كل أشكال التسلط والظلم والاستعباد والاستبداد، وثورة على كل صور البؤس والفقر والتخلف وكل صيغ الإرهاب والتطرف، وثورة ضد الفساد بكل أنواعه.
الحوار الذي دار في المجتمع جرى على نطاق عريض وأخذ أشكالاً لا تحصى استوعبت وأطرت نشاط الثوار وبلورت آمالهم وطموحاتهم المشتركة، وأبرزت إرادتهم الجماعية ورؤاهم لحاضرهم ومستقبلهم. خرج المواطن للشارع وضحى بوقته وماله وروحه من أجل قضيته، تظاهر واحتج وأضرب واعتصم. وما وهنت رسائل الشارع وما تغيرت وما هدأت. هذه هي رسائل المجتمع بعضها مشفر والأغلبية واضحة وضوحاً لا تخطئه العين السليمة. فهل تصل هذه الرسائل للقادة؟ وهل تصحو الأحزاب السياسية وتبدأ في مراجعة أدائها وترتفع لمستوى المسئولية؟
(مدير جامعة ابن سينا ورئيس اتحاد الكتاب السودانيين)
جريدة التيار 28 أغسطس 2019
Comments