الحوار استثمار للموارد الفكرية

 ستثمر الحوار الموارد الفكرية للإنسان، ويسخر مبادراته وإبداعاته في تحقيق الصالح العام. فيفتح المجال لأكبر عدد ممكن من الآراومنها التداول المنتظم الذي يتم من خلال اجتماعات تنظيمات المجتمع المختلفة والتي تستوعب وتؤطر نشاط المواطنين وتبلور آمالهم وطموحاتهم المشتركة، وتبرز إرادتهم الجماعية ورؤاهم لحاضرهم ومستقبلهم. هذا هو (حوار المجتمع) (حوار جماهير الثورة) خاصة وباقي المواطنين عامة. وهو نشاط مستمر بين الناس لا ينقطع أثناء الحياة مهما استقرت أو اضطربت، أثناء التظاهرات والإعتصامات، في السلم والحرب، وفي الأفراح والأتراح.

لا يستطيع المجتمع، في مستوى قاعدته وتنظيماته، أن يبلور بالحوار أفكاره بأكثر من أن يضعها كأسس وأصول عامة ويقدمها في أشكال أدبية وفنية (أناشيد وأهازيج وشعارات، وقرافيتي وجداريات) يقدمها للمستويات التالية. فيأخذ كل مستوى وينتقي من المستوى السابق ويعطي التوجيهات للمستوى التالي ليواصل الحوار. يتصرف كل مستوى من مستويات الحوار وفق نظام معين، ولكل مستوى سلطة تقديرية تمكنه من مو

اصلة الحوار وبلورة المسائل أكثر.
أهم الفرضيات التي يقوم عليها (حوار المجتمع) هي:
· الحقيقة مسألة فردية ليس للمجتمع علم سابق بها، بل هناك فقط الحقيقة كما يعلمها الفرد في اللحظة وفي الظروف المعينة التي يتخذ فيها قراره.
· إن ما يصوغه المجتمع من أسس وأصول عامة للحياة ليست أسساً أو أصولاً جامدة بل يمكنه أن يجددها ويعيد صياغتها بقدر المعرفة المتاحة له أو بقدر ما ازدادت تلك المعرفة ودقت.
· إن للإنسان استعداداً فطرياً لأن يؤمن بالحقائق وينزل على حكمها متى ما عرضت عليه بطريقة مقنعة، وإنه هو الذي يسن قوانين المجتمع وينظم نشاطه.
· إن المواطنين ممثلين بنوابهم هم الذين يضعون تشريعات الدولة وقوانينها ونظمها وقواعد كل نشاط فيها، وهم الذين يختارون قياداتهم، وهم الذين يبعدون تلك القيادة عن الصدارة متى شاءوا.
· إن علم الفرد محدود، وقدرته مهما عظمت لن تخرج من نطاق القدرة البشرية، وفطرته فيها النسيان والجهل والظن والهوى وجميعها تقوده للخطأ. لكن يظل الفرد مسئولاً عن تصرفه فعلاً وقولاً أينما كان وكيفما شارك في أنشطة الحياة.
· كل الأفراد في المجتمع متساوون، وحريتهم في التعبير عن آرائهم مكفولة وحقهم في الخلاف مضمون. فعلاقة الفرد بالجماعة ينظمها القانون وتؤسسها حقوق غير قابلة للاعتداء عليها حتى من قبل القانون نفسه. لكن، ما دامت الحقيقة فردية وغير معصومة من الخطأ، فحكم الفرد سيكون مشروطاً ومؤقتاً، فما يراه صحيحاً اليوم قد لا يراه كذلك غداً.
· إن القرار في المجتمع هو ثمرة التفاعل بين كل القوى فيه، ومصلحة الأغلبية هي المقياس الذي يجب أن يتحكم وعلى الأقلية أن تلتزم به. فأقلية اليوم قد تكون أغلبية الغد.
· إن علاقات فئات المجتمع حين تتبادل الأدوار وتتبادل السلطة، علاقات تكامل من خلال الدولة، كل دور فيها محكوم وكل سلطة فيها مقيدة بباقي مكونات المجتمع وعلاقاته.
· هناك قيم ومبادئ تراضى عليها المجتمع والتزم بمضامينها لتكون أساساً لسلوكه لأنها تعطيه الشعور بأنه كيان واحد. على كل حوار أن يراعي هذه القيم والمبادئ ويجعل منها سياجاً يعمل في نطاقه. وعليه أن يراعي ويحترم عقائد الأمة، ويكون مضبوطاً مع أخلاقها، وموزوناً مع قيمها، ومتسقاً مع الفطرة السليمة.
بعد (حوار المجتمع) يبدأ (حوار الهيئة التشريعية) التي اختارتها قوى الثورة لمتابعة نقاش قضايا الثوار في مستوى تلك الهيئة. حملت الجماهير نوابها الذين يمثلونها في الهيئة التشريعية الأسس العامة التي اتفقت عليها وزودتهم بالتعليمات اللازمة لمواصلة الحوار حولها. فتتابع الهيئة التشريعية الحوار وتترجم الأسس العامة التي تبلورت أثناء (حوار المجتمع) إلى أحكام قانونية وتشريعات.
في آخر مستوى من المستويات يأتي (حوار أجهزة الدولة التنفيذية) وعلى رأسها الحكومة. تترجم الحكومة وباقي أجهزة الدولة التشريعات التي نتجت عن الحوارات السابقة إلى نظم ولوائح تسير بها دولاب الدولة، وتركز بها جهدها ونشاطها، وتوجه بها أجهزتها التنفيذية والإدارية لتنفيذ مهامها عن طريق البرامج والمشاريع العملية، وترعى بها وتراقب أداء تنظيمات المجتمع.
على الدولة بكل مكوناتها ألا تتدخل في (حوار المجتمع) إلا بتهيئة الظروف الملائمة له. فتحمي المواطن من العنف، وتؤمن للحوار وللمجتمع الحماية من الأخطار التي تهدد تماسكه ووحدته، وتحارب العوامل التي تثير التناقض في صفوفه.
على الدولة أيضاً أن توفر المعارف والمعلومات الصحيحة التي يحتاج إليها المواطن وتتيحها له لكي يشارك ويقرر بوعي في المسائل التي تواجهه، وتضمن له الحد المناسب من حقوق المواطنة خصوصاً الاقتصادية والاجتماعية: الحق في العمل، توفير الخدمات الصحية الأساسية، الحق في التعليم، تأمين الحياة الكريمة، توفير المسكن اللائق، تلقي الغذاء الكافي، وتذليل أمر الوصول لوسائل المواصلات والاتصالات الأساسية. وأخيراً، تنشئ الحكومة الأجهزة التي تتابع بها ما اتفق عليه المجتمع وتترجمها إلى نظم ولوائح ومقاييس وتطبقها لتساعده في أن يقوم بعمل شيء إذا أراد.
جريدة التيار 29 أغسطس 2019

Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)