على ود قيامة (باش- بصير البطانة)



بصير لم يهمله الطيب محمد الطيب



 

  • في الذكرى الثانية لرحيل سادن التراث الطيب محمد الطيب (6 فبراير 2007)
عمل معنا في معهد أبحاث الطب الشعبي بالمجلس القومي للبحوث في السنوات الأولى من عقد الثمانينات من القرن المنصرم رجلان لا نظن أنهما سيعوضان وهما محجوب كرار والطيب محمد الطيب رحمهما الله. تعاون الرجلان معنا كما كانا يتعاونان مع وحدة أبحاث السودان ومعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية وغيرها من المؤسسات جامعين ومحققين للتراث الطبي. بتكليف منا، طاف الطيب محمد الطيب ومعه الباحث الدكتور أمير على حسن المنطقة الشمالية بين الدامر وبربر وأجريا مسحاً شاملاً للطب الشعبي والمعالجين الشعبيين في تلك المنطقة العامرة بالأولياء والصالحين والبصرا، ووثقا مشاهداتهما في دراسات رصينة التقطا فيها صوراً نادرة وجمعا العديد من المخطوطات القيمة والعاديات الطبية المختلفة التي كانت نواة طيبة لمتحف التراث الطبي بالمعهد.
السودانيون مثلهم مثل غيرهم من الناس عالجوا أنفسهم من الأمراض المختلفة التي أصابتهم وسعوا لتخفيف آلامهم بألوانها، فلجأوا للطب الذي ورثوه عن أجدادهم لأنه النظام المألوف لديهم والمتوفر والمتاح دوماً والمجرب. كان طبهم مبنياً على معتقداتهم ومفاهيمهم السحرية والدينية وعلى التجربة المتراكمة عبر الزمن وعلى التعلم من الخطأ.
كسب الممارسون الشعبيون وتمتعوا بصدقية كبيرة في علاج مرضاهم. عرفوا بالخبرة أن الأسباب نفسها تؤدي غالباً إلى النتائج عينها، وعرفوا أن بعض النباتات تعالج بعض الأمراض وبعضها سام والبعض الآخر منوم وبعضها يمكن أن يستعمل غذاء أو بهار وبعضها ينقي المياه العكرة لتصبح صالحة للشرب، وبعضها يمكن أن يخمر أو يقطر، ووجدوا أن بعضها يشل العضلات فاستعملوها في صيد الحيوان والسمك وفي قتال الأعداء.
لم يفهم الإنسان القديم العالم من حوله فهماً تاماً، فرأي من حوله أشياء تحصل ولا يستطيع تفسيرها ولا يمكنه السيطرة عليها إلا إذا استعان بقوى خفية تكون وسيطاً بين عالمه الذي يعيش فيه وبين عالم الغيب. وكانت هذه القوى تستميل الآلهة والجن والشياطين والملائكة لحمايته. كانت للأمراض في ذهن العامة قوة سحرية شعر بالضعف وقلة الحيلة أمامها، ولأنه لم يعرف كنهها أضفى عليها هالة من التقديس والرهبة كما أضفى هالة أخرى على كل ما أفزعه وعلى كل ما لم يستطع إدراكه بعقله بشكل كامل. (وليس ذلك بغريب فكذلك فعل الإنسان المعاصر)، فلجأ لحضن الطبيعة الأم يستأنس بعناصرها واستغاث بكل عزيز وغال وتضرع لكل القوى العليا واستعان بكل خبير وبصير.
كانت معرفة الناس عامة بتكوين أجسامهم وأعضائه الداخلية ووظائفها بسيطة، لكنها شكلت على قلتها ثقافتهم العامة عن تصورهم لشكل الجسم (body image) القبيح والجميل وأضفت عليه معاني عديدة وقيماً متغيرة أثرت بشكل أو بآخر على تصرفات الرجال والنساء في الصحة والمرض. حددت هذه المعرفة أيضاً محاولاتهم لعلاج الأمراض والإصابات وللتعايش مع الألم والمعاناة ومع الإعاقة الجسدية والعقلية ومع الضغوط النفسية، كما شكلت أنماط الغذاء والتغذية وما يأكلون وما لا يأكلون.
عرف مجبرو العظام الذين عرفوا بالبصرا كيف يردون العظام المخلوعة إلى أماكنها وكيف يعالجون العظام المكسورة ويمارسون بعض أنواع الدلك مستعملين في ذلك أنواع مختلفة من الزيوت أشهرها زيت النعام. غطوا الجروح النازفة بالرماد والزيت الحار وبعصارة بعض النباتات بل خاطوا بعضها بشعر الخيل مستفيدين من طوله ومتانته. استخرجوا الأجسام الغريبة ورؤوس السهام التي اخترقت أجسامهم مستعملين أدوات جراحية من صنعهم. عرفوا بالخبرة أن الكسور البسيطة يمكن أن تلتئم إذا طببوها بفروع الأشجار أو بجبائر أو (طاب) من الخشب. وقد اشتهر من هؤلاء نفر كثير،نساء ورجال استعرض الطيب محمد الطيب حياة وأعمال واحد منهم ونعرض بعض هذا العرض في هذا المقال.
البصارة في تجبير العظام ممارسة عرفت في كل العالم، فيها يقوم البصير بتجبير العظام وإرجاعها لمكانها وعلاج الردخ والفكك والفصل ويعالج بعض أدواء العضلات، كما ينصح الناس في ماذا يأكلون وما لا يأكلون ويحضر ويصف بعض الأدوية الشعبية أحياناً. والبصرا (والبصيرات) يتمتعون بشعبية كبيرة ويحظون بثقة أغلب قطاعات المجتمع، وينتشرون في السودان انتشاراً كبيراً وبصورة قد لا يتوقعها الكثيرون. فقد وجدنا في دراسة قريبة 120 بصيراً على الأقل في ثلاثة من المحليات المأهولة في العاصمة القومية (أم بدة والحاج يوسف والثورة) في الوقت الذي لم نجد فيه أي طبيب للعظام في نفس تلك المناطق في نفس الوقت. اشتهر (البصرا) رغم أن أخطاؤهم كانت في مجملها كثيرة وبعضها كان خطيراً رغم إمكانية تفاديها بقليل من المعرفة بأبجديات الطب. لم تكن لديهم معرفة معقولة بتشريح الجسم ومجرى الأوعية الدموية والأعصاب، فعجزوا عن معرفة أو تفادي مضاعفات بعض الكسور التي عالجوها فلم تلتئم أو التأمت مشوهة، أو نتج عن الضغط الشديد على موضع الكسر توقف تدفق الدم لأطراف العضو فمات أو أصيب بالغرغرينة مما أدى لبتره، أو أدت الوسائل البدائية التي يستعملونها في نظافة الجروح لالتهابات العظام أو لمرض التتانوس.
جاب الطيب محمد الطيب كل السودان باحثاً ومنقبا في كل ما له علاقة بالتراث الشعبي السوداني والطب الشعبي منها. وكان مقاله (الشيخ على ود قيامة باش-بصير البطانة) الذي نستعرض بعض أجزائه هنا، سجلاً وافياً ودقيقاً للبصارة في بيت عريق من بيوت الكتوتاب. البصارة والبصير مشتقان من البصر وتدلان على عمق النظرة والحكمة والخبرة ومهارة اليد. بالتالي لا تطلق فقط على مجبر العظام بل على (بصير الساقية) الذي يصلح ما خرب منها، وعلى كل من برع في شيئ دون غيره. وعلى ود قيامة واحد من هؤلاء (الحكما). فقد كان (طبيباً بلدياً بشرياً وبيطرياً ومنجماً وراصداً يعرف الطوالع والنوازل من النجوم وخبيراً بمسارب المياه في مهامه البادية، ويعرف طبقات الأرض وما ينبت فيها من شجر ونجم، وكان شاعراً).
كان ود قيامة مثالاً ممتازاً للبصير. فزيادة على براعته في التطبيب، عشق الرجل الصناعات العصرية التي تلائم بيئته فبرع في تصميم الأطراف البشرية لتحل محل المبتورة. وقد بلغ من الدقة أنك لا تعرف إن كان الجزء مستورداً أو محلياً فقد جعل الطرف المصنوع يطابق لون البشرة وجعل للساق المقطوعة من فوق الركبة مفاصل تنثني وتقوم كأنها ركبة حقيقية. وقد أكد كل من استخدم الأطراف التي صنعها ود قيامة أنها أخف وأكثر ملائمة لأطراف السودانيين من المستوردة إن وجدت.
صنع ود قيامة محراثاً من فضلات حديد العربات تجره الخيل والحمير والبقر والإبل، ثم صنع من تصادم العربات الخردة (حشاشة) تسحبها الحيوانات، وكان عمل الحيوان بهذه (الحشاشة) يوازي عمل عشرة رجال (بالملود) أو (الحشاشة) التقليدية. وصمم زراعة (بالتشديد) من خردة الحديد تجرها الحيوانات أيضاً وجعل للبذور علبة ذات فتحات لا تتسرب منها إلا بضع حبات حسب الطلب، وجعل لهذه الزراعة ترساً يحفظ المسافة بين الحفرة والأخرى وقد نجح عمله هذا نجاحاً بيناً.
تجري البصارة في العائلة وتكتسب بالتلمذة عن الكبار. قالت زينب بت بتي رحمها الله وقد كانت بصيرة مشهورة بأم درمان ورثت الصنعة عن آبائها أنها تعلمت تجبير العظام (بالشوف) فهي تؤمن بأن الصنعة (وهبية من الله)، وبيت (بتي) بأم درمان بيت عريق في تجبير العظام. أورث ود قيامة الصنعة أولاده وأبناء أخوانه وأبناء أخواته وأبناء بناته، وكل الأسرة تقوم بالإشراف على هذه المهارات التي أورثهم إياها ود قيامة.
أيضاً، برع الشيخ في الشعر البدوي المعروف بالمربعات الرجزية، فقد ضرب فيه بحظ وافر، فشعره من ناحية البناء يوافق بحر الرجز وأحياناً يقارب الكامل ويختلف شعره عن شعر شعراء عصره الذين يحنون للماضي ويبكون الزمن والرسوم، فمعظم شعر الرجل يدور حول البشارات المستقبلية فقد تنبأ بإعمار شرق النيل الأزرق وتمنى أن تعم الخضرة دياره وأن تبنى البيوت وتشق القنوات وأن تدخل الكهرباء الديار وذلك قبل أن يقوم مشروع الجنيد في نفس المكان الذي تنبأ به.
ربط شعره بالزراعة والأنواء ومساقط النجوم ومواسم الغيث وكان في كل حالة شعراً قوي السبك محكم الوزن طافح بالخيال، وهذه ميزة تضاف لميزات الرجل ومهاراته المتعددة. رحم الله الشيخ على ود قيامة ورحم الله الطيب محمد الطيب.

Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)