الطقوس

الطقس مجموعة حركات أو أفعال متكررة يتفق عليها أفراد المجتمع، ولا تحمل منفعة واضحة لكنها تحمل قيماً ومعاني مبطنة عديدة. تحتل الطقوس حيزاً هاماً في نسيج كل مجتمع، وتؤدي أدواراً وتخدم وظائف عديدة في تعزيز علاقات أفراده وكيف يحتفلون بالحياة من حولهم، وكيف يتعاملون مع ضغوطها ومخاطرها. من هذه الطقوس ما يتعلق بدورة الأيام والشهور والسنين وتعاقب الفصول والأعياد وطقوس الحصاد وفيضان النيل ونزول المطر وأطوار القمر والخسوف والكسوف، وما يتعلق منها بدورة حياة الإنسان مثل طقوس الحمل والولادة والنفاس ونمو الطفل بدءاً بـ (الحُرارة) أي الذبيحة صبيحة اليوم الثاني للولادة فرحاً بسلامة الأم ووليدها، و(السماية) و(التحنيك) وحلق الشعر (الزِيَانة) والفطام، وطقوس الكرامات والصدقات و(الرحمتات) و(المشاهرة)، وطقوس ختان الذكور والإناث وبلوغ الأولاد والبنات سن الرشد وما تعلق منها بالزواج والحداد والموت. في هذه المراحل تنتقل الزوجة لتصبح أماً حين تحبل وإلى امرأة منجبة حين تلد، وينتقل الصبي والفتاة من مرحلة الطفولة إلى مراحل الصبا والبلوغ، والرجولة أو الأنوثة، وهلمجرا.

في كثير من الأحيان يؤدي الفرد أعماله ويمارس نشاطاته اليومية عبر أفعال متكررة لا تحمل في ظاهرها قيمة ملموسة واضحة، فعندما يستاك يومياً بالفرشاة والمعجون ينظف بذلك أسنانه، لكن عندما يصر على أن تكون الفرشاة خضراء اللون ويردد أثناء السواك أدعية بعينها يكون قد أضاف عناصر جديدة غير معلومة الفائدة إلى فعل يومي عادي معلوم النفع والعائد، هذا هو الطقس. الطقوس الشخصية عديدة وأثرها محدود في أغلب الأحوال على الشخص نفسه، أما تلك التي تمارس على مستوى المجتمع فتحمل معاني ودلالات أكثر وقيم أكبر.

مجال الصحة والمرض عامر بالطقوس والرموز التي على الطبيب أن يكون ملماً بها وبأهميتها. ففي كل مرحلة من مراحل الحياة يحاط المرء بطقوس مختلفة وبعدد من العادات التي تحدد، مثلاً، نوع الطعام الذي يـأكله، وتفرض عزله عن الناس إذا مرض أو تمنع زيارتهم له. العادة هي ما اعتاد الناس عليه من أفعال وأقوال وكرروها كل يوم في مناسبات عديدة ومختلفة. والطقوس في الغالب ذات نفع للأفراد والمجتمع ككل وتعمل على تدعيم تماسكه وتعزيز وعيه بذاته. يحمي الطقس، في تقدير الناس، الشخص أثناء مراحل الحياة التي اعتقدوا أنها حرجة ومحفوفة بالمخاطر، والتي يكون فيها الإنسان معرضاً للخطر من العالم الخارجي، بالتالي قد يساعد الطقس في انتقاله من مرحلة لمرحلة جديدة ينضم فيها لمجموعة مستقرة. أهم هذه الطقوس ما عرف بطقوس التكريس أو طقوس العبور التي تغطي أغلب مراحل العمر ودورة حياة الإنسان. في هذه الطقوس يعزل الأشخاص الذين يراد تكريسهم في مرحلة من المراحل عن المجتمع الذي يعيشون فيه وتعطل كل علاقتهم الاجتماعية. في مرحلة العبور، يتحللون من روابط المرحلة السابقة ويتطهرون من أدرانها وشوائبها قبل أن يدمجوا طقسياً في المرحلة التي بعدها، وقبل أن يبدأوا نشاطهم في المجتمع بصفتهم الجديدة وقبل أن يبدأوا ممارسة حياتهم العادية مرة أخرى. تمثل عملية الدمج هذه ميلاداً رمزياً جديداً.

الطقوس الجماعية في أغلب الأحيان لها دلالات رمزية، وفيها مضامين يجدد بها المجتمع قيمه ويرسم بها علاقاته بالآخرين والبيئة حين يكررها باستمرار بطريقة مسرحية تؤكد في كل مرة القيم والاتجاهات والمبادئ التي استقر عليها المجتمع وترسم لأفراده الطريقة التي يجب أن يتصرفوا وفقها فيما بينهم وفيما بينهم وبين قوى الطبيعة وعالم الغيب. باختصار تحدد الطقوس للناس كيف يتحركون في نطاق فهمهم للعالم الذي يعيشون فيه، والعقوبة التي سينالونها إذا هم خالفوا قواعد الطقس والتي ضمنوها في الطقس نفسه.

الشخص الذي يمارس طقوس حياته اليومية، يعيد ويؤكد فهمه وفهم مجموعته لقيم المجتمع وكيف يعمل وينتظم وكيف ينظر أفراده لعالم الناس وعالم ما وراء الطبيعة. هذا الفهم وهذه الممارسات تؤكد أهميتها عندما يصاب الفرد بمرض أو يهدده الموت أو يقع على المجتمع بلاء أو وباء يوثر على تماسك نسيجه، أو تجتاحه مجاعة أو كارثة تهز علاقات الأفراد ببعضهم البعض وتهدد سلامة المجتمع. قد لا نستطيع أن نفصل المنافع العملية في طقوس العلاج والوقاية من غيرها، فقد تكون العملية طقسية ونفعية في آن معاً. نجد الجو الطقسي في عيادة الطبيب الحديث وعند الفقير والبصير على حد سواء. فما أعطي مريض دواء إلا وأطلق معه بخور أو صحبته دعوات وتعويذات (أو تعليمات) قد تطول أو تقصر. يؤثر هذا الجو الطقسي على المريض سلباً أو إيجاباً، لدرجة حدت ببعض الباحثين أن يقولوا أنه أثناء مقابلة الطبيب للمريض أحسن دواء يقدمه الطبيب هو (الطبيب نفسه).

دور الطقوس أبرز وأوضح ما يكون في تدبير المجتمع لصحته وصحة أفراده وكيف يواجهون المرض ومختلف البلايا والرزايا والخطوب. في ممارسة الطقوس حماية للمجتمع نفسياً وجسدياً، فقد تحمي المريض وذويه من مغبة القلق والحيرة المصاحبة للمرض والموت وسوء الحظ والطالع، وبعضها قد يحمي المرضى الضعفاء من مخاطر العدوى وأمراض سوء التغذية. بالتالي، كانت عمليات العزل الطقسية ذات فوائد مباشرة في حماية المجتمع من انتشار الأمراض الوبائية، فعزلت النفساء وعزل مرضى الحصبة والجدري الكاذب والحقيقي في (كُجْرَة) بعيداً عن الناس. والعكس كان صحيحاً أيضاً، فالطقوس الجماعية قد تكون أحياناً مصدر خطر على المجتمع.

الطقوس مفيدة للجماعة في مواجهة الأمور غير المتوقعة وكل حالة مليئة بالقلق والخوف أو كل حالة يصعب فيها التنبؤ بمقبل الأحداث. في هذه الحالات، تقدم الطقوس طرقاً ثابتة ومجربة لمواجهة تلك الأحداث والسيطرة عليها نفسياً وعلى المجهول. تلعب الطقوس دوراً هاماً في فك طلاسم الحوادث وتسعى لحلها وتعيد العلاقات المتضعضعة بين الناس والبيئة والكون إلى نصابها حين تشرح أسباب الإصابة وتعطيها اسماً في حدود فهم الناس ووعيها.


Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)