لم ندرس تاريخ الطب؟


دراسة تاريخ الطب في السودان ضرورية تماماً مثلما كانت وستظل دراسة التاريخ الشخصي والعائلي والاجتماعي هي أولى مهام الطبيب وهو يستجاوب مريضه قبل أن يكشف عليه أو يفحصه ومن ثم يعالجه أو يتنبأ بأحوال مرضه وصحته في السنوات القادمات. كان الأطباء منذ عهد أبقراط وابن سينا يعلمون أن هذه الخطوة هي المدخل الرئيسي لتشخيص مرض الإنسان الذي يجلس أمامهم.
رغم أننا نعيش في الحاضر إلا أننا نخطط للمستقبل وننشغل بما سيحمله من أحداث. فالتاريخ يتسبب في الحاضر وهو الذي يمهد لأحداث المستقبل. لذلك قيل أن الحاضر يحمل الماضي على ظهره والمستقبل في رحمه. دراسة تاريخ المهنة مهمة ولا غنى عنها وإن صعب علينا لمس نتائجها وإن ساعدتنا في معرفة تاريخ مرضانا وحالة المجتمع الذي يعيشون فيه. فالمؤرخون لا يعالجون الملاريا ولا يزيلون مرارة ملتهبة ولا يجبرون كسراً، لذلك يصعب تحديد دورهم ووظيفتهم التي يضيفونها لترسانتنا من المعارف والأدوات خصوصاً إذا نظرنا لهذه الأدوار بمنظار المنفعة الطبية المباشرة التي لا ترى مكانة لدراسة تاريخ المهنة.
يحمل التاريخ مستودعاً مهماً من المعلومات ومن الدروس والعبر التي تساعدنا في التعرف على كيف كان المجتمع يعمل وكيف كان الناس يتصرفون أثناء الصحة والمرض، وكيف صارعوا عناصر الطبيعة عبر الزمان وكيف انتصروا عليها. وإذا تأملنا هذه المعلومات بدقة وحللناها بصبر لوجدنا فيها تراثاً ثراً ومعلومات قيمة عن كيف حافظ الناس على صحتهم وكيف عالجوا أمراضهم المختلفة وكيف تصرفوا في الأحوال الطبيعية وكيف واجهوا الكوارث والأوبئة والمجاعات وغوائل الطبيعة وانتصروا عليها أو فشلوا وانقرضت نتيجة ذلك قبائل بأكمها واختفت من خريطة البلد.
لا يمكننا الاستغناء عن دراسة التاريخ ورصد حياة الأشخاص الذين صنعوا أحداثه والاستفادة من دروسه، ولن ننجح في حياتنا إذا اعتمدنا كلياً على وقائع الحاضر لنحل بها كلما نواجه من تحديات ومن مسائل ومعضلات. وحين قال تاليراند السياسي الفرنسي ما معناه أن البوربون لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً قصد بذلك أن يقول أنهم كانوا يعيدون أخطاءهم باستمرار. وهذا ما عناه آينشتاين بقوله إن الجنون هو أن تعيد الشيء مرة ومرات وتظن أن ذلك سيحدث تغييراً.
دراسة التاريخ تساعدنا في فهم متغيرات الحياة في الصحة والمرض، وحين ننظر في وقائع التاريخ يمكننا أن نرى كيف حدثت بعض وقائعه وكيف تشكلت أبعادها المختلفة، ولم انهارت مؤسسة وتشظت ثانية واستقرت ثالثة. النظر المتبصر في وقائع الماضي يضيئ لنا دون شك وقائع الحاضر. وتجاهل دروس الماضي ليس قراراً سيئاً فقط بل ذو عواقب وخيمة.
أيضاً، إذا أمنا بأن مطالب الحياة الراهنة وضغوط العصر ليست هينة، وأن احتياجات الخدمات الطبية والصحية عظيمة، لم نضيف لهذه الهموم هماً آخر؟ لم نهتم بحال الصحة والمرض في الماضي ولدينا ما يكفينا من هموم الحاضر؟ ماذا يفيد الطبيب الشاب أو طالب الطب أن يعرف أن دكتور عبد القادر مشعال (طبيب عمومي، خريج 1948) كان عالماً من علماء الإسبرانتو (اللغة التي قيل أنها ستكون لغة لكل شعوب العالم)، وأن دكتور لويس عبده تادرس (خريج 1950) كان صديقاً للفقراء من كل جنس وأن قيمة تذكرة مقابلته لمرضاه كانت اسمية حتى توفاه الله، أو أن دكتورة خالدة زاهر سرور الساداتي ودكتورة زروي فهان سركسيان (خريجتا 1952) كانتا أول طبيبتين سودانيتين تتخرجان في مدرسة كتشنر الطبية، وأن زروي كانت من أب أرمني وأم إثيوبية، وأن خالدة زاهر كانت أول امرأة قادت مظاهرة سياسية. هل أضفنا لترسانته الطبية شيئاً؟


Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)