النظم الطبية، من يعالج من وكيف وأين


المعرفة هي ما نعتقد أنه صحيح ولدينا ما يبرر ذلك، وفلسفتها أو طبيعتها هي "مبحث نقدي في مبادئها وأصولها المنطقية. بالتالي، تحاول طبيعة المعرفة أن تجيب على أسئلة مثل: كيف نبني معارفنا وكيف نتحصل عليها، وكيف نعرف ما نعرف لتساعدنا هذه المعرفة في أن نتخذ موقفاً من موضوع ما، أو نقوم بعمل ما. بالتالي، لنتخذ ذلك الموقف ونقوم بذلك العمل نحتاج إلى أن نتعرف على ذلك الموضوع ولنقوم بذلك نحتاج لأن نبني تلك المعرفة. لكن، أول ما يجب أن نعرفه عن معرفتنا الطبية هو أنها ما زالت قاصرة لكن خبرتنا وتجربتنا بالعناية بصحتنا وتطبيب أنفسنا فقديمة قدم الإنسان.
ما هي المبادئ المعرفية لنظم الطب البديلة (Non-conventional medicine NCMs) وما هي المعرفة الشعبية وكيف يفسر الإنسان العادي ظواهر الكون وكيف يبني معارفه التي بواسطتها يشخص المرض ويصف العلاج. وكيف يحيل الإنسان نفسه وغيره لغيره بما في ذلك الإحالة للقوى العليا وقوى الغيب. كما نناقش موقفنا من التراث عموماً ومن التراث الطبي على وجه الخصوص. نناقش أيضاً الطب المبني على البراهين ما هو وما هي قواعده، وهل تخضع كل حقول الطب للبراهين والأدلة أم أن بعضها فقط يحتاج لذلك؟ وهل الخبرة الطويلة والحدس براهين كافية؟ فإذا دلتنا الخبرة المتواترة والمتوارثة مثلاً أن قبضة يد من الحرجل إذا غليت شاياً تنفع آلام المعدة، وأن مديدة الحلبة تنفع الحامل المرضع وتساعدها في إطعام طفلها الرضيع، فهل تكفي هذه الخبرة لأن نقول أن الأول معالج للمغص (spasmolytic) والآخر مدر للبن (lactogenic
ندرس في جامعاتنا ومدارسنا المعرفة التي نعتقد أنها مؤكدة (validated knowledge) لأنها قامت على منطق العلوم الحيوية (bio-logical)، وهي إما معرفة طبية تأسست على العلوم الطبيعية (biomedical) أو معرفة طبية تأسست على العلوم النفسية والاجتماعية (bio-psychosocial). ففي علم الباكتيريا مثلاً نتعرف على (حرثومة الملاريا) بالفحص المخبري بطرق معينة لها قواعد وإجراءات ذات خطوات محددة وثابتة توصلنا لنوعها وفصيلتها، وغير ذلك من المعلومات الضرورية، وذلك قبل أن نصدر حكمنا عليها وقبل أن نشخص المرض الذي تسببه.
استعملت المعرفة المؤكدة طريقة الطب المبني على الأدلة والبراهين (evidence based medicine) حصرياً في الطب العلاجي (therapeutic medicine)، وساهمت أيما مساهمة في ترقية النظرة النقدية للعمليات العلاجية وأعطتها وعياً عملياً. وقد استبطنت هذه الحركة قناعات أخلاقية عديدة أهمها تجنب الإضرار بالمريض، والعمل من أجل مصلحته من منطلق النفع العام، والعدل في جميع المعاملات وعدم هدر الموارد خصوصاً عندما تكون شحيحة. لكن في نفس الوقت لم تتسامح هذه الحركة مع غيرها من المعارف بل قهرتها واستضعفتها بقوانينها وأخلاقها وأساليبها السائدة.
عرف النظام الطبي الغربي المعرفة وفق مفاهيمه وقيمه وحدد مداها، وبهذا التعريف ومن خلال ذلك المدى واصل وجوده. كان أوائل الغزاة والرحالة والمستكشفين والمبشرين وعلماء الغرب حداة ركب الإمبراطورية الغربية الذين لم يضعوا لبنات النظام الغربي ليحل محل المعرفة الشعبية (indigenous knowledge) فقط بل عملوا بطريقة محسوبة ودقيقة في أستبدال نظم هذه المعرفة بنظمهم. ولا نظن أن تدمير هذه البنى (الشعبية) كان تعمد الإضرار بالناس بل كان في تقديرنا تكريساً لعقيدة مستقرة لديهم أعلت قيمة النظام الغربي الذي حاول ولأسباب عملية بحتة خلق هياكل ومسارات سالكة لحكمه وتواضع على لغة موحدة في الخطاب الإداري ليتبادلهها الجميع بينهم بارتياح.


Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)