مجذوبهم تف وقع كالمغشي الإنصرع

أفرد الإمام الغزالي كتاباً عن الوجد أسماه (كتاب آداب السماع والوجد) وهو الكتاب الثامن من (كتب إحياء علوم الدين). قال فيه:

"إن السماع حالة من القلب تسمى الوجد، ويثمر الوجد تحريك الأطراف إما بحركة غير موزونة فتسمى الاضطراب، وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص ..."

ومن أحوال المستمع:

"أن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله تعالى وتقلب أحواله في التمكن مرة والتعذر أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين، فإن للمريد لا محالة مراداً هو مقصده ومقصده معرفة الله سبحانه ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء. وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته."

الوجد (Trance) كلمة تفرد بها قاموس الصوفية، والوجد هو ما وجد عن طريق السماع ويحدث صفاء في القلب فيجد الشخص ما ينقصه وما افتقده في نفسه وتتجلى له الحقيقة. قالوا إن الوجد مكاشفات من الحق، ورفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وإيناس المعقود، وهو فناؤك من حيث أنت. يتواجد الإنسان بعدة طرق أهمها إثارة الحواس بالموسيقى الطقسية الجماعية الراقصة سريعة الإيقاع والصاخبة أحياناً.

يقول الغزالي إن أول درجات السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع، ثم يثمر الفهم الوجد، ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. ولنضرب بعض أمثلة لتنزيل بعض المسموع على معاني يفهمها المستمع دون غيره.

حكي أن بعضهم سمع قائلاً يقول: "قال الرسول غداً تزور فقلت تعقل ما تقول". فاستفزه اللحن والقول وتواجد وجعل يكرر ذلك ويجعل مكان التاء نوناً. فيقول: قال الرسول غداً نزور، حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور. فلما أفاق سئل عن وجده مما كان؟ فقال: ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة".

حكى التجاني الماحي مرة قائلاً أنه أثناء محاضرة باللغة الإنجليزية سمع المحاضر يقول: (Bibliography is half scholarship) أي (الببليوقرافيا نصف البحث). قال أصابني ما يشبه الغشي فلم أعي ما قال المحاضر بعد ذلك لشدة ما أعجبت بضخامة وبلاغة تلك الكلمات القليلة. في حقيقة الأمر، أخذت بذلك البريق المفاجئ الذي ينفذ في البصيرة ليفتح لك آفاقاً ما كانت في الحسبان.

حدثت حالة مشابهة للشيخ سلمان ود العوضية الذي كان يعمل مع إحدى الخدم بائعات (المريسة)، وكان يحمل جرة مريسة فقابله في الطريق بعض الأولياء المسافرين فطلبوا منه قليلاً منها، فأعطاهم دون تردد لكنها تحولت إلى ماء في أفواههم. قيل دعا الأولياء لسليمان بالبركة قائلين: "فليسقك الله من كأس المصطفين". قيل هنا انتابته حالة من الوجد والتجلي أصبح بعدها ولياً من أولياء الله الصالحين.

 ذكر ود ضيف الله أنه كانت للشيخ إسماعيل بن الشيخ مكي الدقلاشي ربابة إذا ضرب عليها "كل ضربة لها نغمة يفيق بها المجنون، وتذهل منها العقول، وتطرب لها الحيوانات والجمادات،" ولذا سمي بـ (صاحب الربابة).

حال السماع الذي تحدث عنه الغزالي ليس فقط الحال الذي يحدث عند الاستماع للموسيقى أو الغناء أو لآيات من القرآن الكريم بل تفرغ كل الجوارح للتلقي بالفهم والاندماج وتحديد المقصد وتهيئة واختيار الزمان والمكان. وقد يتكلف المرء الوجد ويسعى إليه ويكتسبه بالحيلة. أمر رسول الله من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن فإن هذه الأحوال قد تتكلف مبادئها ثم تتحقق أواخرها، فعند قراءة القرآن كل ما يوجد عقيب سماعه وجد، فالطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب والوجل والخشوع كل ذلك وجد.

قد يحدث الوجد عفوياً أو صدفة أو فجأة كبرق خاطف، بتخطيط أو بدون تخطيط، عن قصد أو دون قصد، وقد يحدث أثناء احتفال أقيم خصيصاً لذلك الغرض. قد تصيب الشخص قبل الوصول لهذه الحالة من النشوة تشنجات أو اختلاجات أو اضطرابات، ومن الناس من صعق ومنهم من بكى وزعق ومنهم من مزق ملابسه، ومنهم من غشي عليه ومنهم من مات في غشيه. وقد تصدر عن الشخص كلمات مبهمة (Glossolalia) كما يحدث للذاكرين ومريضات (الزار)، وعندما تطغى النشوة يفقد الشخص شعوره بالزمان والمكان وإحساسه بالألم، وقد يفقد ذاكرته لكل الأحداث اللصيقة بهذه التجربة، فقد يصحب الوجد نوبات من الهلوسة تصدر خلالها المكاشفات والرؤى. كان للكلمة الموزونة المقفاة شعراً أو سجعاً وما تختزنه من أخيلة ومعاني وتداعيات وما تحدثه من انفعالات أثرها النفسي على المستمعين نجد أثرها على الناس حين تغنى وحين تصاحب حلقات الذكر و(الزار).

 

قلبي زاد وجع وحماني القيد منع

العبد قام شرع متقاصر ما بتع

جاب العسل نقع كباه في القرع

ديوانه اجتمع ما صغي لأهل السمع

مجذوبهم تف وقع كالمغشي الانصرع

 

 

Comments

Popular posts from this blog

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)

باتريك دارسي (مؤسس أول كلية صيدلة في السودان)