إمساكية القطينة

قال هاملتون - قريرسون (Hamilton-Grierson) الذي كان قاضياً في مدينة القطينة في العام 1923 إنه أثناء عمله هناك وبينما كان يحاول أن يحكم في حالات نزاعات الأراضي، عجز أن يحدد الأحداث بالسنين والأرقام أثناء تلك المحاكمات، لكنه وجد أن تذكير الناس بالأوبئة والفيضانات المشهورة وما أكثرها قد يقدم حلاً معقولاً. فوضع تقويماً للفترة من 1877-1918 مستفيداً من أهم الأحداث التي مرت في تلك الفترة. فسمى السنوات (سنة الجدري) و(سنة الفار) و(سنة البعوضة) و(سنة السيلة) وما إلى ذلك من أحداث هامة كانت كلها مفجعة فعلقت في ذاكرة الناس. [i]لم لم يتخذ هاملتون قريرسون الشيطة اسماً لسنة؟ فلم نجد سنة تسمى (سنة الشيطة) أو (سنة أبو مزيريق) وقد يكون ذلك لكثرة حدوث وباء الكوليرا.
عرفت الكوليرا بـ (الريح الأصفر)، و(الشيطة) و(الهيضة) و(أبو مزيريق) أو (الزرقة). قال بابكر بدري وهو يشرح المثل (أرجا الله في الكريبة): "حصل وباء (أبو مزيريق) في سنة 1271 هـ (1854م)، فرحل الكثير من البلد فقيل للشيخ ود كنان هلا رحلت كما رحل الناس، فقال: أنا أرجا الله في الكريبة هذه فأرسلت مثلاً." أكدت الأدبيات أيضاً انحسار هذا الوباء في القرن العشرين. كان وباء الكوليرا يضرب السودان في موجات وكانت موجاته قارية (pandemic) وكانت دائماً مسبوقة ومتزامنة مع الجفاف والمجاعات ومع الحروب وآفات الجراد التي كانت تأتي على الزرع القليل. وفدت أوبئة الكوليرا من الشرق الأقصى عبر البحر الأحمر أو من الشمال عبر مصر، ولعبت شعيرة الحج آنذاك دوراً كبيراً في انتقال وانتشار المرض لعدة بلاد من بينها السودان ومصر وإثيوبيا. لم يخل عقد من عقود القرن التاسع عشر من موجة أو أكثر من موجات وباء الكوليرا، وبالتأكيد لم تكن أقل من سبع أوبئة اجتاحت البلاد المجاورة في نفس الوقت وبالتالي حظيت بتوثيق معقول. كان الوباء الذي أعقب حروب الخليفة عبد الله التعايشي مع الحبشة (1889-1891) أشدها، فقد أعقبت تلك الحروب مجاعات طاحنة. كذلك اجتاح البلاد وباء عظيم في اعقاب حملة كتشنر في أواخر القرن التاسع عشر.
يلاحظ أن الكوليرا لم تحظ بمكان في ذلك التقويم رغم أن تلك الفترة حفلت بأوبئة الكوليرا. نظن أن ذلك حدث لأن أوبئة هذا المرض كانت تأتي في موجات متتالية تستمر سنتين أو ثلاثة، بل أنها كانت أكثر من سبعة في القرن التاسع عشر.


[i] Hamilton-Grierson, PFA. Local Calendar. Sudan Notes and Records, 1923: 6, 118-121.

Comments

Popular posts from this blog

نباتات السودان السامة

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)