الجامعة ثقافة
من أقوال عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين:
"إن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما
يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذي لا يكفيه أن يكون مثقفاً بل يعنيه أن يكون مصدراً للثقافة،
ولا يكفيه أن يكون متحضراً بل يعنيه أن يكون منمياً للحضارة. فإذا قصرت الجامعة في
تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هي مدرسة متواضعة
من المدارس المتواضعة وما أكثرها، وليست خليقة أن تكون مشرق النور للوطن الذي تقوم
فيه والإنسانية التي تعمل لها".
لا
يسعني إلا أن أقول أني اتفق تماماً مع (العميد)، فلن أتحدث أو أسأل عما
هو مطلوب بالضرورة وواجب على كل جامعة، وهو أن تناضل وتكفل لنفسها الاستقلال
الصحيح الكافي (مع) وجوب الاحترام
الفعلي لهذا الاستقلال. ولا أناقش ضرورة أن تخرج الجامعة مهنيين ذوي مقدرات
علمية متميزة ومهارات فنية عالية، هذا ما لا جدال عليه. كل هذه النقاط مما لا
أناقشه هنا بل اناقش أهمية أن يكون المهني (الخريج) واعياً ومدركاً لخفايا
المجتمعات التي يعيش فيها أو يعمل معها. وليكون كل المهنيين بهذا المستوى يعني أنهم يحتاجون إلى استيعاب
قدر كبير من المعارف المتنوعة بطريقة مدروسة ومنظمة، وإلى أفق أكثر رحابة في تحصيل
المعرفة، وإلى صفات وخصال متفردة. باختصار، أقل ما يمكن أن تقدمه الجامعة هو أن تساهم
في تخريج شباب مثقف ومواطن صالح. كيف؟
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا تعير كبير اهتمام لعلاقة الأساتذة
بطلابهم. هل نطلب المستحيل إذا طلبنا من هيئة التدريس أن يوثقوا علاقاتهم بطلابهم،
أن يكونوا بينهم أن يرشدوهم وأن يكونوا لهم قدوة، أن يلتصقوا بهم وأن يشاركوهم في نشاطاتهم؟
ويصعب أن نبني جامعة مستقرة لا يعرف طلابها شيئاً عن
التاريخ الاجتماعي لبلادهم. فلا ذاكرة لهم ولا تاريخ. هل نطلب المستحيل إذا دعونا
لتنمية الانتماء الوطني بين الطلاب، وعملنا على تجسير الفجوة بين الأجيال، و بين
الثقافات، وأن نردم الفجوة بين العلوم.
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا تتحدث لغة
طلابها، وطلابها لا يتحدثون لغة أهليهم. الفجوة بين الأجيال تحدث عندما لا يفهم
الكبار والصغار بعضهم البعض لاختلاف خبراتهم وآرائهم وعاداتهم وتصرفاتهم بل اختلاف
لباسهم وذوقهم في الفن والحياة.
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة تقفل أبوابها
الثانية بعد الظهر ويتشتت طلابها عصراً ومساء بين الحواري والأزقة وفي اركان الأحياء
المعتمة المظلمة. فلا ملاعب يروحون فيها عن أنفسهم ويبنون أجسادهم ولا استراحات تؤويهم.
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا يعرف طلابها كيف
يعبرون عن آرائهم واتجاهاتهم الفكرية وإبراز مواهبهم وقدراتهم في الخطابة والإقناع.
هل نطلب كثيراً إذا طلبنا إشاعة الطمأنينة في أروقة الجامعة بتشجيع الطلاب ليبثوا
صحف الحائط التي يتنفسون من خلالها، ويقيموا الندوات التي ينمون فيها قدرات الاستماع
للراي والرأي الآخر وإلى تلاقح الأفكار.
كيف يمكن أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا تربي
طلابها في تداول الشأن العام. حقوقنا وحرياتنا لا تحميها
إلا الإجراءات الصحيحة التي نطبقها بدقة وحزم. أصبحت الدولة الحديثة تعرف بتعدد
تنظيماتها الراسخة ذات النظم السليمة والقواعد الثابتة والإجراءات الدقيقة
والممارسات القانونية قبل أن تعرف بأي صفات أخرى. في ظل هذه الدولة يعمل الطلاب
والأساتذة والموظفين وباقي العاملين في داخل كل جامعة بواسطة أجهزة ولجان، يشارك
في أنشطة المؤسسة كل واحد (مستفيدين أو أعضاء أو ضباط تنفيذيين، الخ).
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا تفتح أبوابها
لقادة الفكر في المجتمع ليخاطبوا طلابها ويلتحموا بهم. الخلف يرث خبراته من أسلافه ومنهم
أيضاً يتعرف على تقاليد المهن وأعرافها. الاحتكاك بين الخلف والسلف والتفاعل
الواعي بين الأجيال والتبادل الحكيم للمعرفة بينها هو ما يضيق الفجوة التي اتسعت
بين الأجيال وما زالت تتسع، ويخلق جسوراً واثقة بينها تصل بعضها ببعض وتجعل الخلف
أكثر وعياً ونضجاً.
يصعب أن نتصور استقرارا حقيقياً في جامعة لا ينتمي إليها
أحد فكل هيئة التدريس عابرو سبيل أو في حكم ذلك. متى نستطيع استبقاء أساتذة
الجامعات، كل في جامعته، حتى يشعروا بالانتماء لمؤسسة واحدة؟ بالتالي يساهمون في
اصطياد مهارات ومواهب ونبوغ طلابهم ورعايتها. كم يا ترى من المواهب ضاعت لأنها ضلت
طريقها واستقرت في مقبرة.
Comments