الممرضتان، ميبل وجيرترود ولف





أسست الأختان ميبل وجيرترود ولف (
Mable and Gertrude Wolff) مهنة القبالة الحديثة في السودان، وأقامتا في الفترة من 1920 إلى فجر الاستقلال 18 مدرسة للدايات ثلاثة منها في ملكال وواو وجوبا، تدربت فيها 547 داية قانونية حلت ببطء محل الدايات البلديات اللائي عرفن (بدايات الحبل). أربعة أخماس ذلك العدد من الدايات انتشرن في أقاليم السودان المختلفة، وستة وعشرون منهن عملن في جنوب القطر.
لم يكن برنامج تدريب الدايات ذو نفع للمستعمر أو مشروعاً استعمارياً مثل ما كانت مشاريع الجزيرة والزيداب أو خزان سنار. ولم يكن مثل كلية غردون التي دمغت بأنها تفرخ كتبة لدواوين الحكومة، ولم تكن مثل مستشفى الخرطوم الملكي وغيره من المستشفيات الملكية في المدن الكبرى التي قد تخدم جنود الجيوش الغازية وتوفر المناخ الصحي لموظفي الدولة المستعمرة. قامت مؤسسة الدايات لرعاية المرأة السودانية، والسودانية وحدها، فلم تكن للأجانب نساء بالكثرة التي تحتاج لهذا الجيش من القابلات.
أفنت هاتان السيدتان زهرة شبابهن في السودان. تعلمت جيرترود العربية في مصر وميبل في السودان. تعلمن عامية أهل السودان وتعمقتا في فهم أحوال المجتمع الذي جاءت منه الدايات وعاشت فيه المرأة. تتشربن عادات وتقاليد الناس وراعينها في صياغة برامج تدريب الدايات، وثابرن في تجنيد العناصر الممتازة من النساء من كل الأعمار في زمان ما كان للفتاة فيه أن تبرح باب بيتها ونجحن في مساعيهن.
كانت ميبل وجيرترود ولف بريطانيتان جسورتين ملكتا قلوب السودانيين واكتسبتا إعجاب ومباركة كل الدايات في السودان. فلولا شجاعتهن وإصرارهن ومثابرتهن لما قامت مهنة القبالة في السودان. فقد تغلبن على معارضة الأهالي ومعاكسة السلطات البريطانية الحاكمة. طالبن لتوفير احتياجاتهن بقوة. كن صارمات ومنضبطات في أداء مهامهن لدرجة اقتربت، كما قلن، من الاستبداد بالرأي. ولم يكن في مقدورهن أن ينجحن لولا وفاء وإخلاص مساعداتهن والقيادة المتفهمة لخلفهن. يقول حسن بلة محمد الأمين الذي وثق لهذه التجربة:
"إن ميبل ولف لم تكن امرأة عادية في حساب الإنسانية والعطاء وفي حساب الإنجاز والابتكار. كانت امرأة سابقة لزمانها ورغم أن العمل الجليل والتجرد الذي أفنت فيه حياتها كان في بلد مستعمر، وربما لا يكون معروفاً في العالم آنذاك، إلا أنها وبمقاييس العالمية فإن الأفكار والمفاهيم التي ابتدعتها، والطرق والوسائل التي ابتكرتها، وطبقتها بنجاح ربما لا يعدلها شيء في تاريخ وحاضر تقديم الخدمات الصحية، ليس فقط في عدد النفوس التي أحيت على مدى السنين، ولكن في إرسائها لقواعد وتطبيقات تحتاجها دول العالم خصوصاً حيث لا توجد الخدمات ولا يوجد الطبيب. إنها بحق امرأة عبقرية تستحق كل التكريم في حياتها وبعد مماتها. وتستحق أن يوضع اسمها في سجل العظماء والخالدين في العالم. ولو كانت جائزة نوبل تعطى لمن غادروا الحياة لاستحقتها بامتياز. إن هذه المرأة وأختها تمثلان أوجها مضيئة وإنسانية رائعة رغم كونهما جزءاً من نظام استعماري."

Comments

Popular posts from this blog

نباتات السودان السامة

آل الحكيم

طه أحمد بعشر(مؤسس خدمات الطب النفسي في السودان)